الإشارات الكونیة في القرآن الكریم ومغزى دلالتھا العلمیة
الإعجاز العلمى - الفلك وعلوم الفضاء
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم أحمد الله تبارك وتعالى، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء
ورسله، وأحييكم بتحية الإسلام: السلام و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
وبعد...
في الثلث الأول من القرن العشرین لاحظ الفلكیون عملیة توسع الكون التي دار من حولھا جدل طویل حتى سلّم
العلماء بحقیقتھا، وقد سبق القرآن الكریم بالإشارة إلى تلك الحقیقة قبل ألف وأربعمائة سنة؛ یقول الحق تبارك
وتعالى: ( وَالسَّمَآءَ بَنَیْنَاھَا بِأَیْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُون ) الذاریات: 47 . وكانت ھذه الآیة الكریمة قد نزلت والعالم كلھ
ینادي بثبات الكون، وعدم تغیره، وظل ھذا الاعتقاد سائدًا حتى منتصف القرن العشرین حین أثبتت الأرصاد الفلكیة
حقیقة توسع الكون، وتباعد مجراتھ عنَّا، وعن بعضھا بعضًا بمعدلات تقترب أحیانًا من سرعة الضوء (المقدرة
بنحو ثلاثمائة ألف كیلومتر في الثانیة)، وقد أبدت كل من المعادلات الریاضیة وقوانین الفیزیاء النظریة استنتاجات
الفلكیین في ذلك، وانطلاقًا من ھذه الملاحظة الصحیحة نادى كل من علماء الفلك، والفیزیاء الفلكیة والنظریة بأننا
إذا عدنا بھذا الاتساع الكوني إلى الوراء مع الزمن فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة الموجودة في الكون
(المدرك منھا وغیر المدرك) وتتكدس على بعضھا في جرم ابتدائي یتناھى في الصغر إلى ما یقرب الصفر أو العدم،
وتنكمش في ھذه النقطة أبعاد كل من المكان والزمان حتى تتلاشى (مرحلة الرتق).وھذا الجرم الابتدائي كان في حالة
من الكثافة والحرارة تتوقف عندھما كل القوانین الفیزیائیة المعروفة، ومن ثم فإن العقل البشري لا یكاد یتصورھما،
فانفجر ھذا الجرم الأولي بأمر لله تعالى في ظاھرة یسمیھا العلماء عملیة الانفجار الكوني العظیم.
ویسمیھا القرآن الكریم باسم الفتق، فقد سبق القرآن الكریم كل المعارف الإنسانیة بالإشارة إلى ذلك الحدث الكوني
العظیم من قبل ألف وأربعمائة من السنین بقول الحق تبارك وتعالى:
( أَوَلَمْ یَرَ الَّذِینَ كَفَرُوآ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاھُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلا یُؤْمِنُونَ )
. الأنبیاء: 30
وتشیر دراسات الفیزیاء النظریة في أواخر القرن العشرین إلى أن جرمًا بمواصفات الجرم الابتدائي للكون عندما
ینفجر یتحول إلى غلالة من الدخان الذي تخلّقت منھ الأرض وكل أجرام السماء، وقد سبق القرآن الكریم بألف
وأربعمائة سنة كل المعارف الإنسانیة وذلك بإشارتھ إلى مرحلة الدخان في قول الحق تبارك وتعالى:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِى خَلَقَ الأَرْضَ فِى یَوْمَیْنِ وَتَجْعَلُونَ لَھُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِینَ * وَجَعَلَ فِیھَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِھَا وَبَارَكَ فِیھَا وَقَدَّرَ فِیھَآ أَقْوَاتَھَا فِى أَرْبَعَةِ أَیَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِینَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَھِىَ دُخَانٌ فَقَالَ
لَھَا وَلِلأَرْضِ ائْتِیَا طَوْعًا أَوْ كَرْھًا قَالَتَآ أَتَیْنَا طَآئِعِینَ * فَقَضَاھُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِى یَوْمَیْنِ وَأَوْحَى فِى كُلِّ سَمَآءٍ
. أَمْرَھَا وَزَیَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْیَا بِمَصَابِیحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِیرُ الْعَزِیزِ الْعَلِیم ) فصلت أية: 9- 12
وفي 8 نوفمبر سنة 1989 م أطلقت وكالة الفضاء الأمریكیة مركبة فضائیة باسم مكتشف الخلفیة الإشعاعیة للكون
وذلك في مدار على ارتفاع ستمائة كیلومتر حول الأرض بعیدًا عن تأثیر كل من السحب والملوثات في النطق الدنیا
من الغلاف الغازي للأرض، وقد قام ھذا القمر الصناعي بإرسال ملایین الصور والمعلومات إلى الأرض عن آثار
الدخان الأول الذي نتج عن عملیة الانفجار العظیم للكون من على بعد عشرة ملیارات من السنین الضوئیة، وھي
حالة دخانیة معتمة سادت الكون قبل خلق الأرض والسماوات، فسبحان الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة يقولَ
الحق تبارك وتعالى
. ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَھِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَھَا وِلِلأَرْضِ ائْتِیَا طَوْعًا أَوْ كَرْھًا قَالَتَآ أَتَیْنَا طَآئِعِینَ ) (فصلت: 11
دخانیة السماء بعد الانفجار الكوني العظیم أي بعد فتق الرتق. بعد التسلیم بحقیقة توسع الكون، وبرد ذلك التوسع
إلى الوراء مع الزمن حتى الوصول إلى جرم ابتدائي واحد مُتَنَاهٍ في الضآلة حجمًا إلى الصفر أو ما یقرب من العدم،
ومتناه في الكثافة والحرارة إلى حد لا یكاد العقل الإنساني أن یتخیلھ، لتوقف كل قوانین الفیزیاء المعروفة عنده
(مرحلة الرتق)، وبعد التسلیم بانفجار ھذا الجرم الابتدائي (مرحلة الفتق) في ظاھرة كونیة یسمیھا العلماء الانفجار
الكوني الكبیر بدأ كل من علماء الفلك والفیزیاء الفلكیة والنظریة في تحلیل مسار الأحداث الكونیة بعد ھذا الحدث
الكوني الرھیب، ومع إیماننا بأن تلك الأحداث الموغلة في تاریخ الكون تقع في صمیم الغیب الذي أخبرنا بھ تبارك
وتعالى عند قولھ عز من قائل:
( مَآ أَشْھَدتُّھُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِھِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّینَ عَضُدًا ) الكھف: 51
إلا أن السنن التي فطر لله تعالى الكون علیھا لھا من الاطّراد، والاستمرار، والثبات، ما یمكن أن یعین الإنسان
على الوصول إلى شيء من التصور الصحیح لتلك الأحداث الغیبیة الموغلة في أبعاد التاریخ الكوني على الرغم من
حس الإنسان المحدود، وقدرات عقلھ المحدودة، ومحدودیة كل من زمانھ ومكانھ.
كذلك فإن التقنیات المتطورة من مثل الصواریخ العابرة لمسافات كبیرة في السماء، والأقمار الصناعیة التي تطلقھا
تلك الصواریخ، والأجھزة القیاسیة والتسجیلیة الدقیقة التي تحملھا قد ساعدت على الوصول إلى تصویر الدخان
الكوني الأول الذي نتج عن عملیة الانفجار العظیم، والذي وجدت بقایا أثریة لھ على أطراف الجزء المدرك من
الكون، وعلى أبعاد تصل إلى عشرة ملیارات من السنین الضوئیة لتثبت دقة التعبیر القرآني بلفظة دخان التي
وصف بھا حالة الكون قبل خلق السماوات والأرض.
الفیزیاء الفلكیة ودخانیة الكون
بعد الانفجار العظیم تحول الكون إلى غلالة من الدخان الذي خلقت منھ الأرض والسماوات تشیر الحسابات
الفیزیائیة إلى أن حجم الكون قبل الانفجار العظیم كاد یقترب من الصفر، وكان في حالة غریبة من تكدس كل من
المادة والطاقة، وتلاشي كل من المكان والزمان، تتوقف عندھا كل قوانین الفیزیاء المعروفة (مرحلة الرتق) ثم
انفجر ھذا الجرم الابتدائي الأولي في ظاھرة كبرى تعرف بظاھرة الانفجار الكوني العظیم (مرحلة الفتق) وانفجاره
تحول إلى كرة من الإشعاع والجسیمات الأولیة أخذت في التمدد والتبرّد بسرعات فائقة حتى تحولت إلى غلالة من
الدخان. فبعد ثانیة واحدة من واقعة الانفجار العظیم تقدر الحسابات الفیزیائیة انخفاض درجة حرارة الكون من
تریلیونات الدرجات المطلقة إلى عشرة بلایین من الدرجات المطلقة (ستیفن و. ھوكنج 1988 م
وعندھا تحول الكون إلى غلالة من الدخان المكون من الفوتونات والإلكترونات والنیوترینوات وأضداد ھذه
الجسیمات مع قلیل من البروتونات والنیوترونات، ولولا استمرار الكون في التوسع والتبرد بمعدلات منضبطة بدقة
فائقة لأفنت الجسیمات الأولیة للمادة وأضدادھا بعضھا بعضًا وانتھى الكون، ولكنھ حفظ بحفظ لله الذي أتقن كل
شيء خلقھ.
والنیوترونات یمكن أن توجد في الكون على ھیئة ما یسمى باسم المادة الداكنة وینادي (آلان جوث) بأن التمدد عند
بدء الانفجار العظیم كان بمعدلات فائقة التصور أدت إلى زیادة قطر الكون بمعدل 2910 مرة في جزء من الثانیة.
وتشیر حسابات الفیزیاء النظریة إلى الاستمرار في انخفاض درجة حرارة الكون إلى بلیون (ألف ملیون) درجة
مطلقة بعد ذلك بقلیل، وعند تلك الدرجة اتحدت البروتونات والنیوترونات لتكون نوى ذرات الإیدروجین الثقیل أو
الدیوتریوم التي تحللت إلى الإیدروجین أو اتحدت مع مزید من البروتونات والنیوترونات لتكون نوى ذرات والقلیل
الھیلیوم ذرات البریلیوم، ولكن (HeliumNuclei) من نوى ذرات عناصر أعلى مثل نوى ذرات اللیثیوم ونوى
بقیت النسبة الغالبة لنوى ذرات غازي الأیدروجین والھیلیوم، وتشیر الحسابات النظریة إلى أنھ بعد ذلك بقلیل
توقف إنتاج كل من الھیلیوم والعناصر التالیة لھ، واستمر الكون في الاتساع والتمدد والتبرد لفترة زمنیة طویلة،
ومع التبرد انخفضت درجة حرارة الكون إلى آلاف قلیلة من الدرجات المطلقة حین بدأت ذرات العناصر في التكون
والتجمع وبدأ الدخان الكوني في التكدس على ھیئة أعداد من السُّدُم الكونیة الھائلة.
ومع استمرار عملیة الاتساع والتبرد في الكون بدأت أجزاء من تلك السدم في التكثف على ذاتھا بفعل الجاذبیة
وبالدوران حول نفسھا بسرعات متزایدة بالتدریج حتى تخلقت بداخلھا كتل من الغازات المتكثفة، ومع استمرار
دوران تلك الكتل الكثیفة في داخل السدم بدأت كمیات من غازي الإیدروجین والھیلیوم الموجودة بداخلھا في التكدس
على ذاتھا بمعدلات أكبر، مما أدى إلى مزید من الارتفاع في درجات حرارتھا حتى وصلت إلى الدرجات اللازمة لبدء
عملیة الاندماج النووي فتكونت النجوم المنتجة للضوء والحرارة.
وفي النجوم الكبیرة الكتلة استمرت عملیة الاندماج النووي لتخلیق العناصر الأعلى في وزنھا الذري بالتدریج مثل
الكربون والأوكسیجین وما یلیھما حتى یتحول لب النجم بالكامل إلى الحدید فینفجر ھذا على ھیئة فوق المستعر
النجم المستعر داخل المجرة لتتكون منھا (Nova) وتتناثر أشلاء فوق المستعرات وما بھا من عناصر ثقیلة في
الكواكب والكویكبات، بینما یبقى منھا في غازات المجرة ما یمكن أن یدخل في بناء نجم آخر بإذن لله وتحتوي
شمسنا على نحو 2% من كتلتھا من العناصر الأثقل في أوزانھا الذریة من غازي الإیدروجین والھیلیوم، وھما
المكونان الأساسیان لھا، وھذه العناصر الثقیلة لم تتكون كلھا بالقطع. في داخل الشمس بل جاءت إلیھا من بقایا
انفجار بعض من فوق المستعرات.
وعلى الرغم من تكدس كل من المادة والطاقة في أجرام السماء (مثل النجوم وتوابعھا) فإن الكون المدرك یبدو لنا
متجانسًا على نطاق واسع، في كل الاتجاھات، وتحده خلفیة إشعاعیة متساویة حیثما نظر الراصد. كذلك فإن توسع
الكون لم یتجاوز بعد الحد الحرج الذي یمكن أن یؤدي إلى انھیاره على ذاتھ، وتكدسھ من جدید، مما یؤكد أنھ محكوم
بضوابط بالغة الدقة والأحكام، ولا یزال الكون المدرك مستمرٌّا في توسعھ بعد أكثر من عشرة ملیارات من السنین
(ھي العمر الأدنى المقدر للكون) وذلك بنفس معدل التوسع الحرج، ولو تجاوزه بجزء من مئات البلایین من المعدل
الحالي للتوسع لانھار الكون على الفور.
فسبحان الذي حفظھ من الانھیار!! والنظریة النسبیة لا یمكنھا تفسیر ذلك لأن كل القوانین الفیزیائیة، وكل الأبعاد
المكانیة والزمانیة تنھار عند الجرم الابتدائي للكون قبل انفجاره (مرحلة الرتق) بكتلتھ، وكثافتھ وحرارتھ الفائقة،
وانعدام حجمه إلى ما یقرب من الصفر.
ولا یمكن لعاقل أن یتصور مصدرًا لخلق ھذا الكون بھذا القدر من الإحكام غیر كونھ أمرًا من الخالق سبحانھ
. وتعالى الذي ( إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَیْئًا أَن یَقُولَ لَھُ كُن فَیَكُونُ ) یس: 82
فعلى سبیل المثال لا الحصر یذكر علماء الفیزیاء أنھ إذا تغیرت الشحنة الكھربائیة للإلكترون قلیلاً، ما استطاعت
النجوم القیام بعملیة الاندماج النووي، ولعجزت عن الانفجار على ھیئة ما یسمى بفوق المستعر إذا تمكنت فرضًا
من القیام بعملیة الاندماج النووي. والمعدل المتوسط لعملیة اتساع الكون لابد وأنھ قد اختیر بحكمة بالغة لأن معدلھ
الحالي لا یزال قریبًا من الحد الحرج اللازم لمنع الكون من الانھیار على ذاتھ.
ویقرر علماء الفیزیاء النظریة والفلكیة أن الدخان الكوني كان خلیطًا من الغازات الحارة المعتمة التي تتخللھا بعض
وحده