فـــــــــد وى
زهرة بيضاء صافية القلب نقية السريرة ..رأيتها تقف شاخصة ببصرها
بعيداً عبر الأفق الخافت الملامح ..تتطلع وكأن عينيها سحرها جان
ويسلب لبها شيطان ...تملأ أحداقها تساؤلات ويلفها الشجن والجزع ...
فــــــــد وى...طفلة فى التاسعة من عمرها تحتضنها مخيمات الجنوب
من زمن بعيد فلقد ولدت فيها وتحت سقف الالم والتشريد والضياع كانت
تسمع حكايات الكبار عن بلدها المسلوب وأرضها المغتصبة تكونت
عظامها من الامل ونما جسدها بالأمنيات ومزجت دماؤها بالثورة....والأرادة....والأصرار
نعم فهى فلسطينية الجذورلايهزها ريح كالجبل الصامد...
تجرى وتلعب وتمرح وتضحك كالأطفال لكن جزء بقلبها يتألم دفين فى
محارة الامنيات ينتحب عليلاً..
كانت تمسك بطائرتها الورقية حيث كانت تقف شاخصة البصر
تنازعها الامنيات وتترقب الاتى فى الغيب ..تلعب بها مع أقرانهاوتترك
لها العنان لترتفع فى السماء كما لو أنها تأمرها بالهروب
.كالنخلة العنيدة الضاربة بجذورها
فى بطن الارض الطيبة لا تقتلعها ..بعيداً بعيدأ..إلى حدود بلادها ..
وتسمع خفق فؤادها و هو ينادى بلادى..بلادى ...ياليتنى طائرة ورقية
لأحلق معك صوب سما بلادى
كانت تذهب إلى مدرستها وتسمع حكايات أخرى مؤلمة موجعةأطفال
فى فلسطين بعمر الزهور ...تسلب براءتهم وتنتزع أرواحهم بأنياب
شيطانية همجية...تنمو وتكبرفدوى وينمو معها شىء سكن بين أضلعها
..روته بماء الثأر العتيدة
( الألم ...والأمل ...والأصرار)
فى جهة أخرى وفى مكان آخر أتحدت الآلام والآمال وتلاقت الأرواح
..كان مازن يعيش الحكاية بتفاصيل اخرى فهو
ابن الثالثة عشر ..كان يتمنى أن يستفيق ذات صباح على ثرى أجداده فهو
من الجولان السليب ..انشطر عن رحمه قبل ان يأتى للحياة لا يستطيع ان
يرى اعمامه واخواله بجولان سوريا ...وذلك بأمر كتبه وخطه الشر
بمخالبه الدنيئة...
وتمر الاعوام والسنون..وتتحد الامال ويفتل فتيل الثورة بالاعماق عندما
يتقابل مازن و فدوى بدمشق حيث حاكت ايدى القدر الظروف لتلاقى روحيهما
هناك...فلقد سافرت فدوى الى دمشق عند أخيها أحمد الذى سبقها بأعوام
للدراسة بالجامعة...وكان مازن من أصدقاء أخيها
ونمت بينهما عاطفة نبيلة طيبة أراد مازن أن يكللها بما أحل الله (الزواج)
ولأن فدوى تختلف عن (بنات جيلها) فهى ابنة فلسطين الأبية الصامدةوتحمل
بين أضلعها نسيم ترابها وطهارة قدسها لم تكن أحتياجاتها مثل الأخريات ...
سألها أحمد (أترضين) بمازن زوجاً لك
فــــد وى : ولما لا وقد اتحد الهدف و الثأر ..وعدونا واحد
وسألها مازن: ماذا تريدين مهراً؟؟
قالت فدوى لن أذق طعم الفرح ولن يلمس جسدى ثوب العرس إلا على
ثرى بلادى ..ومهرى(ركعتين شكر لله) فى ساحة (المسجـــد الأقـــــــصى )
عروس الأقصى
ـــــــــــــــــــــــــ
أنا أسْمى من أن أزفّ بلا زغاريد.. وأكبر
أنا الأغلى مهرا أنا الأرفع سعرا أنا لمن يحبّني أكثر
من يأخذ بيدي الى الأقصى أصلّي الظهر والعصر
من يدفع مهر ُمحجّبة مُخضّبة بحنّاء القدس
من يرد ّ حجابي ويكتب كتابي بماء المسك والعنبر
من يطير بي الى أولى القبلتين وعلى وجنتيّ يطبعُ قبلتين
الله اكبر ...الله أكبر ...كانت تلك صيحة مازن مدوية ...مزلزلة
فهذا ماكان يتمناه منذ طفولته...أن يزود عن بيت المقدس أرض الأسراء
أو تزهق روحه دونه...حينها سيستشعر طعم النصر واسترداد جزء من
كرامة زهقت تحت نعال كلاب أقزام
أعدوا العدة وحددوا ميعاد الرحيل ولم تكن حقيبة فدوى تحوى غير
رداء آخرغير الذى ترتديه ..أما مازن فكان له هدف آخر لم يخبر به
بشر...كان له رداء خاص من
(حزام ناسف) أعده بأتقان لغرض ما.....إذا ما أعترضته كلاب الأعداء
ومنعتهما من الوصول لبيت المقدس ..فلقد قرر ألا يعود
للوراء ولا ينظر خلفه بعد بداية الرحلة ...
إما أن يزف لفدوى أو لعروسه (من الحور العين) ولم يخبر فدوى بقراره
هذا وكانت فدوى تخبىء فى نطاقها حجر وسكين ...لوقت حاجة
وذكرتنى بأختها ذات النطاقين رضى الله عنها حين كانت خير
معين لأبيها ولرسوله الأمين....
وعند الحدود أضطربت المشاعر وحبست الأنفاس واعترتهم هزة من
الفرح والقلق ...وكانت الباقيات من الخطوات اشد ثقلاً من كل الخطوات التى
تركوها خلفهم ..وكان الزمن يمر بطيئاً وكأنه لا يتحرك وأخذ مازن بيد
فدوى وكأن كفه الحانية تخفيها عن أعين الشر وأنيابه وعند بوابة القدس
صاح كلب أجرب:
قف....قف
لم يبالِِ مازن وكأنه لم يسمع أو لا يريد السماع
قف ..من أنت؟؟
ونسى مازن عروسه التى بيده وأفلت يدها الصغيرة من بين أصابعه
وكأنه يريد عرس آخر فى مكان آخر ...للحظة سرقته من نفسه العبرات
وأختنقت بحلقه الأنفاس ...وجرى مازن يلهث ويقول بأعلى صوت
(وااقدساه...وااقدساه... وااأقصاه... وااأقصاه...لبيك قدس الأسلام لبيك
يامن كنت أمن وسلام ...يامن سلبك احط وأقذر الأنام ..وااقدساه)
وإذا بصوت هادر ..من فوهة لعينة غاشمة...تغتال حلم الشباب وفى
هذه اللحظة ومع هذا الصوت اللعين يأتى صوت فدوى يصيح مازن ...
مازن ...ويسقط مازن ويدرك أنه هالك..لامحالة..بعد أن
أصابت قلبه رصاصة عمياء ...وتستل فدوى سكينها وترشقه بكل قوتها فى
صدر من أغتال حبيبها وحلمها ...وإذا بكلب آخر يقذفها برصاصة
أخترقت صدرها الذى طالما حمل الأمل والثورة بين اضلعة الرقيقة
ونظر مازن نظرة واهنة إلى فدوى وتذكر حينها ماذا خطط له ..وماذا يحمل
فى حزامه جذب شىء صغير تدلى من بين طيات قميصه الذى تخضب
بدمائه ودماء فدوى التى أرتمت بين أحضانه صريعة..وكانت أبصارهما
ترقى إلى السماء شاخصة متوسلة ربها
(أشهد الا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)
كانت تلك آخر كلمات مازن وفدوى قبل أن تتناثر أشلاؤهما وأشلاء
مجموعة من الكلاب التى كانت تصوب تجاههم بسلاحهم ..وتملأ المكان
..فلقد كان مازن مقرراً إما النصر بدخــول الاقصى وصلاة (ركعتين لله )
مهر فدوى فى ساحة المسجد الأقصى أو الشهادة ...وتساقط على ما تبقى من
أجسادهما الطاهرة قطع صغيرة لطائرة ورقية كانت تحلق فى السماء بأمنيات
طفلة أخرى وأمال وليدة تأبى الخضوع والخنوع
وستستمر أسراب الطائرات الورقية فى سماء القدس حاملة أمنية وأمل
وحزام وسكين ونداء من قلب ينادى
( ليتنى طائرة ورقية أحلق فوق سماء القدس بلادى )