يحيي البوليني - مصر
أفخر أني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأفخر بانتمائي لهذه الأمة التي اختبرها أعداؤها مرارا، فأثبتت لهم في كل مرة أنها أمة قد تتعرض للضعف المادي أو لقلة الإمكانيات، تصبر على الجوع والفقر والمرض والقهر، تتألم حين تؤذي بسفك دماء أبنائها، وتعد العدة ليوم تنال فيه حريتها، لكنها تنتفض انتفاضة الأسود الجريحة حينما تمس إحدى ثوابت دينها.
بين الفينة والفينة يُخضعها أعداؤها لبالون اختبار لقياس مدى ارتباطها بدينها، ومدى استعدادها للتضحية من أجله، وفي كل مرة يكتشفون أنه لا جديد، فتثبت أنها مهما كانت درجة ضعفها أنها لن تسمح لأية قوة أن تمس شيئا من دينها وإنها - كأفراد ومجتمعات - تستهين بالموت دون مساس أي معتد لجزء من دينها ومعتقداتها .
تعرضت الأمة للحروب الكثيرة من قبل، اكتشفت أن تضعف كثيرا جدا إذا حاربت باسم الوطنية والقومية والشعوبية، واكتشفت أنها أقوى ما تكون إذا حاربت باسم الإسلام.
وهذا ما خلص إليه القادة العسكريون الغربيون، فمنذ وصية لويس التاسع الذي هُزم في المنصورة وأُسر وسُجن في قلعتها ثم افتُدي وخرج إلى فرنسا ولقبوه بلقب " القديس لويس "، فأوصاهم وصية لا يزالون يحفظونها، ولازالت في خزائنهم لتذكرهم ليل نهار بأن الحرب مع مسلمين يحاربون باسم الإسلام ستنتهي دوما بخسارة غير المسلمين، وأنه لابد للسعي لحرب المسلمين بطريقة أخرى غير الاصطدام بثوابتهم ومعتقداتهم.
ووعى الغربيون الدرس، حتى عندما أراد نابليون أن يغزو العالم الإسلامي من قلبه في مصر ومن بعدها عكا بفلسطين، أراد أن يلبس على الناس الأمر وادعى أنه يحترم الإسلام والمسلمين بل أصدر بياناً يوضح فيه أنه صار مسلما وأبلغهم بنيته تشييد مسجد باسمه وارتدى العمامة ودعا بنفسه إلى إقامة الاحتفال البدعي بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وزود الصوفية بالمال الكثير لإقامة احتفالاتهم ليثبت للناس أن حربه معهم ليست حربا دينية لكي يضمن الانتصار.
وتنبه العلماء لحيلته، وفضح شيوخ الأزهر للناس مقصده وغايته، وتصدى له المصريون - ديانة لا وطنية - حتى أن الجبرتي في كتابه " عجائب الآثار في التراجم والأخبار " الذي أرخ فيه لتلك الفترة لا يذكر لفظ " المصريون " مطلقا بل كان يقول دوما " المسلمون " في كل وصفه لما عليه أهل مصر يومها في صدهم لغزو نابليون.
وفضح مقصد نابليون أيضا ما أوصى به قائده الذي خلفه على مصر، فترك له رسالة ظلت مخفاة لفترة طويلة - ذكرها العلامة محمود محمد شاكر في كتابه القيم " في الطريق إلى ثقافتنا " - فأسرع حينما وصل إلى فرنسا بكتابة رسالة إلى كليبر معلنا فشل هذا الغزو العسكري للمرة الثانية حتى بالحيلة التي قام بها، مستبدلا الحرب بخطة أخرى من شقين، الأول إفساد أهل مصر بالغناء والتمثيل والثاني إيجاد جيل من المثقفين المستغربين الذين سيقودون بأنفسهم هدم التدين في المسلمين، وساعتها يكون الانتصار الغربي على المسلمين سهلا.
فجاء في تلك الرسالة الهامة قول نابليون : " كنتَ قد طلبتَ مراراً جوقة تمثيلية، وسأهتم اهتماماً خاصاً بإرسالها لك، لأنها ضرورية للجيش، وللبدء في تغيير تقاليد البلاد "، فهذا هو الركن الأول للخطة العاجل في المدى القريب، أما الركن الآجل على المدى البعيد " اجتهد في جمع (500) أو (600) شخص من المماليك، حتى متى لاحت السفن الفرنسية تقبض عليهم في القاهرة أو الأرياف وتسفِّرهم إلى فرنسا، وإذا لم تجد عدداً كافياً من المماليك فاستعض عنهم برهائن من العرب أو مشايخ البلدان، فإذا ما وصل هؤلاء إلى فرنسا يُحجزون مدة سنة أو سنتين، يشاهدون في أثنائها عظمة الأمة (الفرنسية) ويعتادون على تقاليدنا ولغتنا، ولمَّا يعودون إلى مصر يكون لنا منهم حزب يُضم إليه غيرُهم"
واستمر المخطط بنفس الوضوح والقوة بالنسبة لهم، وكثير من أبناء العالم الإسلامي في غفلة عنه، لكنهم استمروا في مخططاتهم وسعيهم ويصرحون بخططهم ولا يلتفت أغلب المسلمين الذين غرق بسطاؤهم في الفرق التمثيلية والغنائية بينما غرق أغلب مثقفيهم في الانبهار بالثقافة الغربية.
ومن صريح كلامهم ما قاله جلادستون في مجلس العموم البريطاني حينما وقف ممسكا نسخة من المصحف الشريف وصرخ قائلا : "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض"، ومن بعده جاء كرومر لمصر محددا هدفه "جئت لأمحو ثلاث : القرآن والكعبة والأزهر"
وظل هذا الحال إلى أن جاء أغبى أبناء بربارا – كما قالت بنفسها – جورج بوش وصرح بأن حربه على العالم الإسلامي هي امتداد للحروب الصليبية، فكشف ما كان مستورا، فكان ما كان فيها من تحزب لقوى صليبية تحت مسمى قوات التحالف التي لم تتحرك يوما إلا باتجاه تدمير بلد إسلامي ولقتل المسلمين وتعذيبهم بطريقة غير آدمية في سجون جوانتنامو وأبو غريب.
وكان أيضا ما كشفت عنه التقارير حديثا من اتجار قوات الأمم المتحدة في البوسنة ببعض المسلمات فيها وبيعهن كرقيق أبيض لمواخير الدعارة والفساد، وهذه القوات التي خُدع فيهم المسلمون وظنوها موئل أمان أمام الصرب فساعدوا الصرب على ارتكاب المذابح الجماعية التي شهدنا بشاعتها جميعا.
وجاء من بعده إدارة أغبى منه في فضائحها المستترة والمعلنة، فمن جنودهم من بال على جثث القتلى في مشهد لا يقل بشاعة عن المشاهد الأخرى والذي يعبر عن وحشية غير آدمية في حربهم معنا، وزادنا يقينا بأنها حرب صليبية دينية عقائدية لا تعرف الهوادة ولا أنصاف الحلول ولا تحتكم إلا لمنطق القوة والهمجية والوحشية ولا شريعة تحكمها إلا شريعة الغاب فقط.
وجاء الحدث الذي أيقظ الأمة التي طالما خدعت نفسها بأوهام مثقفيها الذين رباهم الغرب وصنعهم على عينه لكي يجعلهم حائط صد ومنع لبروز فكرة أن هذه الحرب دينية وليست حربا إقليمية أو سياسية، فمزق بعض جنودهم المصحف الشريف في أفغانستان ليهب المسلمون الذين لا يتخاذلون ولا يضعفون أمام من يعتدي على مقدساتهم.
ليتداعى الناس بعدها إلى الكلمة التي طال اشتياق المسلمين لها، ليتداعوا إلى الجهاد ضد الذين حرقوا مصاحفنا وبالوا على جثث قتلانا، وتنبهت لذلك التأثير صحيفة أمريكية فصرحت بأن قضية حرق المصاحف قضت على آمال الناتو في أفغانستان وأنها فجرت ثورة الغضب في قلوب الأفغان، بينما ذكرت صحيفة أمريكية أخرى متعجبة أن تلك الحادثة – على بساطتها في نظرهم – قد أشعلت أزمة لن تنتهي قريبا وخاصة بعد دعوة أعضاء البرلمان الأفغاني للمواطنين لحمل السلاح ضد جنود الجيش الأمريكي مع تهديد كثير من الأفغان بالانضمام إلى حركة طالبان معتبرينها أنها المدافعة الوحيدة عن الإسلام والمسلمين في أفغانستان.
ويحاول رئيس الأركان الاعتذار ويسمى أن هذا خطأ من أفراد جيشه، ومن بعده يحاول الرئيس الأمريكي أوباما الاعتذار الذي لا يتفق أبدا مع ذلك الفعل فجعله في رسالة لقرضاي دون أن يكلف نفسه بالظهور العلني على وسائل الإعلام للاعتذار حتى لا يقع في حرج أمام الناخب الأمريكي، فالاعتذار وهمي غير حقيقي لأن الاستهانة بالإسلام والمسلمين في نظرهم صارت سنة متبعة، فبالأمس اعتذروا عن البول على الجثث واليوم يعتذرون عن حرق المصاحف فماذا يتبقى للمسلمين من مقدس لكي يعتدوا عليه ثم يعتذرون ؟!!
إن ما يحدث الآن رغم ألمه الشديد ووقعه الجارح على كل مسلم إلا أنه خير محض للإسلام والمسلمين، فحينما يدرك المسلمون أن حرب أفغانستان حرب دينية وصليبية كما سبقها من حرب العراق كانت أيضا صليبية على أمة الإسلام، وحينما ينتبهون ويوقنون أن حربهم مع الصهاينة يجب أن تنطلق من منطلق إسلامي لا غير كما علمها الصهاينة وعملوا بها منذ قدومهم بأنها حرب دين وعقيدة وليست حرب أرض ووطن على الإطلاق.
وحينما يعلمون أن ما يحدث في سوريا ليست مظاهرات شعبية تقمعها حكومة محلية بل هي حرب دينية شيعية على المسلمين السنة، فحينما تستبين الحقائق وتضعف قوة حجة أبناء الاستعمار - ذلك الطابور الخامس والسوس الذي ينخر في عظام الأمة الإسلامية - الذين يصورون لنا ويخدعوننا بأن هذه الحروب ما هي إلا حروب اقتصادية أو سياسية أو غيرها، حينها تكون تلك الأحداث مبشرات لإفاقة الأمة وفهمها لعدوها وتبينها لحقيقته وترفع القناع المزيف عن وجهه الخبيث، ساعتها ندرك أول مراحل النصر.
رفع المسلمون عدة ألوية في حروبهم وهُزموا، وناداهم الكثير بعدة نداءات فلم يتجمعوا، نادوهم تارة بالقومية العربية وأخرى بالشعوبية وثالثة بالاشتراكية، لكن المسلمين لم يلبوا هذه النداءات ولم ينضووا تحت تلك الألوية، لكن اللواء الأخير الذي ضمهم والنداء الأخير الذي سمعه المسلمون ويشتاقون لسماعة ثانية هو نداء السلطان عبد الحميد الثاني حينما نادي فيهم ""يا مسلمي العالم اتحدوا "
فهل يأتي هذا النداء ؟ وهل يرفع أحد هذا اللواء بعد أحداث ذلك الربيع العربي وخاصة بعد السقطة التي سقطها جون ماكين حين صرح لكثير ممن لم ينتبهوا للأحداث في العالم الإسلامي " أن الثورة المصرية تعتبر أهم حدث في منطقة الشرق الأوسط منذ إنهاء الخلافة العثمانية "